لا شك أن المتمسك بالسنة في هذه الأزمنة لا بد أن يلاقي أذى، ولا بد أن يلاقي تعبا ومشقة، ولا بد أن يُنال منه ولا بد أن يضطهد ويؤذى، فإذا صبر واحتسب؛ فإنه يناله بذلك هذا الأجر، إذا تمسك ولم يبال بمن آذاه، ولم يبال بمن خالفه، ولم يبال بما حصل منه، أو حصل عليه من الأذى أو الاضطهاد أو التحقير، أو أنواع البلاء؛ صبر على ذلك واحتسب فإن أجره كبير، أجره عظيم؛ كما ذكر في هذا الحديث أن للعامل في تلك الأزمنة التي هي زمان الغربة أجر خمسين يعملون مثل عمله أو قيل: يا رسول الله خمسين منا أو منهم؟ قال: بل منكم أي خمسون من الصحابة هو أجره، وما أعظم الأجر إذا حصل له هذا.
ولكن هذا بسبب أنه جهر بالحق، وأظهر السنة، وتحمل ما أصابه، وعلم بأن هذه سنة الله، سنة الله تعالى في خلقه، في أنه إذا تمسك العبد التمسك الواضح الظاهر؛ فإنه لا بد أن يناله ما يناله، قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ .
وحتى الرسل يستبطئون نصر الله، ويقولون: متى يحصل النصر؟ الله وعدنا بنصر ثم قال: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فتشتد هذه الأزمات وهذه الأهوال حتى على الرسل وعلى أتباع الرسل، ويكون صبرهم ثمنا للجنة.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ أي تحسبون أنكم تدخلون الجنة وقد ... أنكم دائما لم يصبكم شيء من البلاء الذي أصاب من قبلكم، ولم تبتلوا بمثل ما ابتلوا به، لا، لا بد أن ينالكم ما تنالون به رضا الله، وما تنالون به كرامته وعليكم الصبر، وعليكم الاحتساب، هكذا أخبر الله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ .
هل تحسبون أنكم ستتركون من غير ابتلاء؟ لا بد من الابتلاء: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا .
الكفار مثلا قد يعافون، وقد يمد لهم في الأجل، وقد يعطون من القوة ومن التمكين، ولكن لا ينخدعون بذلك ولا تنخدعوا به، لا تنخدعوا بما أوتوه ومثل ما حصل لهم من القوة؛ فإن ذلك متاع قليل وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا والإملاء هو التأخير، الله تعالى يؤخرهم إلى أجل مسمى ويقول الله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا .
هكذا توعدهم الله أن لهم موعدا وهذا الموعد محدد، الله تعالى هو الذي حدده، لا تستعجل، وتقول: إنك حصل علي وكذا ولم يحصل على فلان أو فلان، بل انتظر إلى أن يحين الأجل الذي حده الله تعالى، الله تعالى قد أخبرنا بأنه لا بد أن يبتلى المؤمن، ولا بد أن يصيبه ما يصيبه، في هذه الحياة ليرفع الله تعالى درجته، وليجزل مثوبته.
لما أوذي الصحابة -رضي الله عنهم- بعدما أسلموا بمكة واضطهدوا، وألقوا في الشمس، وألقيت على صدورهم الحجارة، وضربوا، وأوذوا؛ فكان ذلك دليل على صبرهم، وتمسكهم بالإسلام تمسكا ظاهرا، فعند ذلك أنزل الله تعالى لهم تسلية قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ يعني هل يحسبون أنهم يظهرون الإيمان، ومع ذلك لا يحصل لهم فتنة؟!
بلى سوف تحصل الفتنة، وسوف يبتلون وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ هذا الابتلاء وهذا الامتحان يظهر به من هو صادق ومن هو كاذب، وليعلمن الله يعني يظهر معلوم الله، يظهر من علم الله أنه صادق ومن علم الله أنه كاذب هكذا قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، عند هذا الامتحان يظهر، من علم الله أنه صابر، ومن يعلم من قلبه أنه منافق أو أنه مُرَاء، فالذي ينخدع، ويترك الخير، ويعمل بالشر، ويجاري الناس ويداهنهم، إذا حصل له أية أذى أو أية مصيبة أو ما أشبه ذلك.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن هذه الدار دار ابتلاء وامتحان، وأن الامتحان والابتلاء يكون في حق المؤمنين أشد، ليرفع الله تعالى درجاتهم، ويجزل مثوبتهم، وليثيبهم على صبرهم.
ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة؛ شدد عليه وإلا خفف عنه هكذا أخبر بأن المؤمنين يبتلون كما تبتلى الأنبياء، الأنبياء هم أفضل الأمة، وأفضل الخلق؛ أفضل الخلق، ومع ذلك هم أشد الناس بلاء.
كما حصل لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من الابتلاء ومن الامتحان في حياته قبل الهجرة، وحتى أيضا بعدها، أصابه ما أصابه، وكذلك أتباعه ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه على قدر صلابته في دينه، وعلى قدر تمسكه بدينه، فإن كان في دينه صلابة، وفي دينه قوة؛ يوجد دلائل ليعظم أجره، وليظهر صبره ليكون قدوة لغيره، وإلا خفف عنه.
كذلك أيضا ذكروا: أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني أحبك، فقال: إن كنت صابرا؛ فأعد للبلاء تجفافا فإن البلاء أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منحدره هكذا أخبره إذا كنت تحبني؛ فلا بد أن ينالك بلاء، فإن البلاء يسرع إلى من يحبني، كما أنه يسرع إلى الأنبياء، وإلى أتباعهم أسرع من السيل إلى منحدره.
وروي في بعض الآثار أن الأنبياء وأتباعهم يسلط عليهم الكثير من الأذى، ومن الابتلاء، ومن الامتحان حتى أنه يبتلى، وأنه يسلط عليهم حتى القمل في رءوسهم، وفي ثيابهم.
كل ذلك لأجل أن يزيد الله تعالى في درجاتهم، في سنن الترمذي الحديث الذي فيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الله بعبده الخير؛ عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر؛ أمسك عنه بذنبه؛ حتى يوافى به يوم القيامة فيكون هذا الابتلاء والامتحان الذين يصيب الإنسان تكفيرا لخطاياه، ورفعا لدرجاته إذا أراد الله بعبده الخير؛ عجل له العقوبة العقوبة تكون تكفيرا لما يصيبه ولما يفعله من نقص أو تقصير أو نحوه، وأما الذي يعافى؛ فإنه يكون علامة على أنه ممن أراد الله تعالى به الشر.
وروي في ذلك أيضا حديث: أن مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تكفئها الرياح يمينا وشمالا مثله بأن الرياح تأتي من هنا ومن هنا فتميل بها من هنا، وتميل بها من هنا، يعني يشير إلى الآفات والمصائب التي تحصل للمؤمن، ومثل الكافر بأنه كشجرة الأرز التي لا تحصد إلا مرة واحدة؛ الكافر لا يصيبه شيء إلا مرض الموت عادة، وإن كان قد يصيبه في بعض الأحيان زيادة في عقوبته.
وكذلك ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط لا شك أن هذه البشرى للمؤمن الذي يبتليه الله تعالى دليل على أنه يعظم جزاءه، عظم الجزاء مع عظم الأجر، عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا أحب الله قوما ابتلاهم إذا أراد الله بهم خيرا ابتلاهم فمن رضي؛ فله الرضا ومن سخط؛ فله السخط .
فذلك كله مما يفرح المسلم بهذه الدنيا، لأنه إذا ابتلي؛ فإنه ممن أراد الله تعالى به خيرا، وأنه ممن يكفر الله عنه ما يقع فيه، كما روي أن أبا بكر - رضي الله عنه- سمع آية في سورة النساء هي قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فقالوا يا رسول الله: هذه قاصمة الظهر، إذا كان كل من عمل شيئا فإنه يجزى به، نحن سنجزى بالسوء الذي عملناه قديما أو حديثا، فبشرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الجزاء الذي تجزون به هو ما ينالكم في الدنيا من الهم والغم والألم والمصائب والحزن وما أشبه ذلك، وبشرهم أيضا بقوله -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه .
فقال: هذا هو الذي تجزون به، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ أي يجازيه الله به في الدنيا؛ فيكون إن كان مؤمنا؛ جازاه الله في الدنيا، وكان ذلك الذي يصيبه من الهم ونحوه جزاء ما عمله من السوء.
وأما إن لم يكن مؤمنا؛ فإنه تؤخر له سيئاته حتى يجازى بها، في الآخرة عذاب أليم شديد -والعياذ بالله- فنحن؛ يعني كثيرا من السلف كانوا يفرحون بالبلاء كما يفرح غيرهم بالنعمة.
ومن أراد التوسع في ذلك؛ فليقرأ كتاب ابن القيم الذي سماه عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين أوله: يتعلق بالصبر وبالمصائب، وبما يحصل من أثر الصبر والتحمل، وآخره: يتعلق بالشكر، فالصبر يكون على المصائب، والشكر يكون على النعم وعلى الخيرات، وكلاهما فيه أجر، وفيه خير للمؤمن.
ولا شك أن لما يلزم المؤمن أن يصبر على ما يصيبه، وأن يكون ممن يقوم بأمر الله، ويعمل بما أمر به، ويظهر دينه، ويظهر ما ألزم به، ولا يبالي ولا يخاف في الله لومة لائم؛ فلذلك يكون حقا أنه من القائمين بأمر الله تعالى، ومن الذين ينالهم الأجر.
ففي قوله -فيما أخبر الله تعالى به من المصائب ونحوها- أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ الفتنة تكون عند إظهار الدين، فلو أن الناس كلهم جهلوا، وسكتوا، واقتصروا على أنفسهم، ولم يتدخلوا في أمور الناس، ولم يأمروا بالخير، ولم يدعوا إليه؛ لظهر الشر وتمكن، وأصبح الأشرار يسومون الناس سوء العذاب، وأصبح أهل الخير أذلاء مغمورين مقهورين ليس لهم تصرف، وليس لهم أية اختيار.
أما إذا عرف أهل الخير أنهم مكلفون بأن يدعوا إلى الله تعالى، وبأن ينكروا على من خالف الطريق السوي المستقيم، وبأن يجهروا بدينهم، ويظهروا الإنكار على من خالف الحق، ولو كان ما كان، ويتحملوا ما يحدث لهم فإنهم -والحال هذه- يصيرون بذلك قد أظهروا أمر الله تعالى، وأطاعوه فيما كلفهم وفيما أمرهم.
ولقد وصف الله تعالى الصحابة -رضي الله عنهم- بقوله .. فنعرف أن الله تعالى وصف الصحابة بست صفات في قوله تعالى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ الصفة السادسة قوله: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ أي: لا يخافون في ذات الله لوم من يلومهم، ولا إنكار من ينكر عليهم، ولا يخشون من أذى، أو من عذاب أو من بطش أو نحو ذلك، بل يجهرون بالحق ويسطعون به ويظهرونه مهما كانت الأحوال.
هكذا أخبر الله بصفاتهم، وكذلك في الحديث الذي فيه وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر يقول: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع إلى أن قال: وأمرني أن أقول الحق، وإن كان مرا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم .
فقول الحق يعني: الجهر به بين الناس، وعدم المخافتة، أو عدم المداهنة في الجهر بالحق، هكذا أخبر أنه لا بد أن يكون الإنسان يقول الحق، ولو كان مرا، ولو على نفسه، وأن يجهر في ذات الله تعالى بما أمره به.
وعلى كل حال فهذا ونحوه دليل على أن المسلم عليه أن يصبر على الجهر بالحق، وعلى تغيير المنكر، ويتحمل ما أصابه، ويعرف أن ذلك في سبيل الله، كما ذكروا
<متن_ح ربط=Hits17706.htm معياري=أنه صلى الله عليه وسلم مرة دميت إصبعه في سبيل الله فقال هل أنت إلا إصبع دميت وفي > أنه -صلى الله عليه وسلم- مرة دميت إصبعه في سبيل الله، فقال:
هَلْ أَنْــتِ إِلَّا إِصْبَــعٌ دَمِيــتِ | وَفـي سَـبِيـلِ اللَّـهِ مَـا لَقِيـتِ |
ابدأ بنفسك فانههـا عـن غيهـا | فإذا انتهت عنــه فـأنت حـكيم |
لا تنه عن خـلق وتـأتي مثلـه | عار عليـك إذا فعلــت عظيـم |
تصف الدواء لذي السقام من الضنا | كيما يصـح بـه وأنـت سـقيم |
غير تقـي يـأمر النـاس بالتقى | طبيب يداوي النـاس وهو سـقيم |
ابـدأ بنفسـك فانههـا عـن غيهـا | فـإذا انتهـت عنـه فـأنت حـكيم |